الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أي إذا أراد غفرانها راجع الآية 52 من سورة الزمر في ج 2 {قُلْ} يا أكمل الرسل لقومك أن هذا الذي أنبأتكم به من حالتي أهل الجنة والنار وكوني رسولا منذرا بأن الإله واحد وأن القرآن منزل من لدنه وأن شركاءكم لا يغنون عنكم من اللّه شيئا {هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} قدره، جليل أمره، ولكنكم {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} مع أنه لا يغفل عنه ويجب الانتباه له والتمسك به وأن اللّه تعالى أنزله إليّ لأقصه عليكم والا أنا {ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ} أبدا {بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} لأني لم اقرأ الكتب القديمة ولا أحسن الكتابة لأنقلها إليكم وأن جميع ما قرأته لكم من الآيات وما سأتلوه عليكم بعد ليس من نفسي {إِنْ يُوحى إِلَيَّ} أي ما علمته إلا بوحي إليّ من اللّه {إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ} لكم من عذاب اللّه وبشير لكم بما عنده للمؤمنين {مُبِينٌ} ما يأمرني به ربي وشارح لكم عاقبة أمره معكم وكلما أذكره لكم عن الملأ الأعلى وعن أحوال الدنيا والآخرة ما هو من تلقاء نفسي، إنما هو بوحي منه، وأراد بالملأ الأعلى الملائكة وبالخصومة هو ما وقع بينهم وبين آدم عليه السلام مما قصه قبل وما يقصه بعد من اعتراضهم على خلافته كما سيأتي في الآية 30 من البقرة في ج 3.قال تعالى واذكر يا محمد لقومك {إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} لا من نور كالملائكة ولا من نار كالجن {فَإِذا سَوَّيْتُهُ} أتممت خلقه كما هو في علمي {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} أضاف الروح لنفسه المنزهة على سبيل التشريف اضافة ملك كبيت اللّه وناقة اللّه، والروح جوهر لطيف يسري في بدن الإنسان سريان الضوء في الفضاء، والنار في الفحم، والماء في العود، والشمس في الظل، والرائحه في الماء، أي إذا أفضت عليه ما يحيا به من الروح الطاهرة المقدسة الشريفة التي هي أمري وجعلته حيا حساسا متنفسا {فَقَعُوا لَهُ} حالا بلا توان {ساجِدِينَ} تعظيما له واحتراما لقدرتي حيث خلقته من تراب على غير مثال سابق وجعلته على أحسن صورة، فلما سمعوا ما أمرهم به ربهم أجابوه فورا كما يدل عليه قوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} لم يتخلف منهم أحد امتثالا لأمره {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ} على ذلك المخلوق آدم عليه السلام الذي اصطفاه اللّه واجتباه أن يكون أبا لأكمل الخلائق وأحسنها {وَكانَ} هذا الخبيث بسبب امتناعه عن السجود {مِنَ الْكافِرِينَ} الملعونين المطرودين قالَ تعالى {يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ} على آدم الذي توليت خلقه بنفسي {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ} المتفوقين عليه، والعالون صنف من الملائكة المقربين كحملة العرش والروح، قيل إن هؤلاء لم يؤمروا بالسجود وإنما الأمر صدر من اللّه تعالى لعوام الملائكة، فظن هذا الخبيث نفسه منهم فلم يسجد مع علمه أنه داخل فيمن أمر بالسجود ولهذا احتج وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} فلا أسجد لمن هو دوني لانك {خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} والنار على زعمه أشرف من الطين فيكون على ظنه أنه أفضل منه والفاضل لا يتواضع المفضول عادة ولم يعلم الخبيث خطأ قياسه الذي سنبينه في الآية 11 من الأعراف الآتية لأن النار مصيرها الرماد ولا ينتفع به والطين أصل كل نام من الحيوان والأشجار، ولا شك أن من الأشجار ما هو مثمر ومن الحيوان الإنسان، وكل منها خير من الرماد وإذا كان للنار خاصة الإحراق والضياء فللطين خواص كثيرة فلو فرض أن رجلا نسيبا مجردا من كل فضيلة وآخر غير نسيب جامع للفضائل كلها فهل يفضل ذلك عليه لمجرد نسبه كلا، وكان على الخبيث أن يمتثل لمجرد الأمر من غير أن ينطرق للسبب وللمسجود له لما هو عليه من معرفة ربه على أن شرف الأصل لا يقتضي شرف الفرع قال ابن الوردي: لكنه عليه اللعنة لم يكن هذا قصده ومغزاه وإنما أراد التكبر عليه لأنه يقول في نفسه قبل أن يصرح بما انتحله من السبب والعلة أنه لو فرض أنه خلق من النار ما سجدت له لأنه مثلي فكيف وقد خلق من الطين ويريد التفوق علي فإني أن سجدت له صرت دونه ولا أرضى لنفسي الدون.هذا وجاء لفظ أستكبرت بهمزة الاستفهام وأصلها بهمزة الوصل ولكن لما دخلت همزة الاستفهام حذفتها ويجوز بدون الاستفهام لدلالة {أم} التي أتت بعدها عليها {قال} تعالى تنفيذا لما هو في سابق علمه الأزلي أن يكون {فَاخْرُجْ مِنْها} أي الجنة، وإنما رمز إليها بالضمير ولم يسبق لها ذكر لشهرة كونه من سكانها، والمعلوم دائما يرمز إليه بالضمير كما بيناه في أول سورة القدر المارة وزاد في إخسائه بقوله: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} طريد منها {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ} الجزاء والحساب ولا يقال أن غاية هذه اللعنة منتهية إلى يوم القيامة، لأنه إذا كان مطرودا في أوان الرحمة الشاملة للمؤمن والكافر فلأن يكون مطرودا في غير أوانها يوم القيامة من باب أولى لأن الرحمة فيها خاصة بالطائعين وكيف تنقطع وقال تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} الآية 43 من الأعراف الآتية وعلى هذا فإن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا كان يوم القيامة زيد له عليها من أجناس العذاب ما ينسيه إياها ويكون كأنها انقطعت عنه، والرجيم في الآية الاولى محمول على الطرد من الجنة والمعنى في الآية الثانية محمول عن الطرد من الرحمة فلا تكرار فيهما ولما أيس الخبيث ورأى أن صورته تغيرت عما كانت عليه لظهور آثار غضب اللّه عليه حيث اسود جسمه وازرقت عيناه بعد أن كان يباهي الملائكة بخلقه وعرف أن لا يبدل قول اللّه ولا يتغير لفرط حذاقته التي استعملها بالخبث {قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} أخرني ولا تمتني {إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} يعني آدم وذريته، وقد استمهل الملعون ليتمادى في البغي والطغيان وليجد فسحة للاضلال مع علمه أن لا سبيل للبقاء ليأخذ ثأره من آدم وذريتة باغوائهم وعلى زعمه أنه بإجابة دعوته ينجو من الموت لأنه لا يكون بعد البعث موت وهو أمر معروف عند الملائكة وقد كان معهم كأنه منهم ولشدة مخالفته لهم علموا أنه منهم قالَ تعالى: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} جمع الضمير مع عدم وجود منظر غيره لأن الذين يحضرون القيامة الاولى منظرون إليها بآجالهم فجعله منهم في هذه الحيثية ليس إلا وهذا الانظار {إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} للنفخة الأولى الموقت والمقدر لموت كافة الخلق اجمع ولما لم يفز الملعون ببغيته كما أراد صرح لربه عما في ضميره، وهو أعلم به {قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} آدم وذريته ولما عرف أنه لم يقدر على إغواء الجميع استثنى فقال: {إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} بفتح اللام اي الذين استخلصتهم لعبادتك وبكسرها أي المخلصين لك منهم، أقسم الخبيث بسلطان اللّه وقهره على إغواء عامة الخلق اولا، ثم استثنى منهم من لم يقدر على اغوائه والتوصل إليه لا لأجل إخلاصهم، قاتله اللّه ما ألعنه قالَ تعالى {فَالْحَقُّ} أنا الإله القاهر {وَالْحَقَّ أَقُولُ} أقسم بذاته جلت وعلت وهذا أعظم قسم به {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ} نفسك وذريتك وجنسك من الشياطين والجن والمردة {مِمَّنْ تَبِعَكَ} في الإغواء والضلالة والغواية والإضلال {مِنْهُمْ} من ذرية آدم الذين أقسمت على إغوائهم {أَجْمَعِينَ} توكيد للضميرين في منك ومنهم أي التابعين والمتبوعين.وليعلم القارئ الفطن أن هذه القصة قد تكرر في سور أخرى كثيرة في القسم المكي والمدني ولكن يوجد في بعضها ما لا يوجد في الأخرى للايجاز، وقد يكون فيها لفظان متحدان مآلا، مختلفان لفظا رعاية للتفنن وقد يحمل الاختلاف على تعدد الصدور فيقال إنه أقسم مرة بعزة اللّه كما هنا وأخرى باغوائه كما في الأعراف الآتية في الآية 67، وقد يحمل الاختلاف على اختلاف المقام كإثبات الفاء هنا في {فانظرني} وتركها في الأعراف وغيرها، فالذي يجب اعتباره هو أصل المعنى ونفس المدلول، وحيث أن مقام الحكاية اقتضى ذلك وهو ملاك الأمر، فلا يخلّ تغير الألفاظ في أصل المعنى كما ترى، وسنأتي على تفصيل القصة في الآية المذكورة من الأعراف إن شاء اللّه بأوضح من هذا.قال تعالى يا محمد {قُلْ} لقومك أن ما أنذركم به عن اللّه واجب عليّ حتما تنفيذا لأمر اللّه به واثبه إليكم مجازا {ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} ما أبدا ولا أطلب منكم جعلا البتة {وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} المتعصّبين المتحلّين بما ليسوا من أهله، ولا المتخلفين المتقولين من أنفسهم، ولا من المدعين بما ليس عندهم حتى أنتحل لكم وأتقول بالقرآن والادعاء بالنبوة {إِنْ هُوَ} الذي أنذركم به ليس {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ} أجمع، أنزله اللّه عليّ لأذكركم به علّكم تتعظون بأوامره ونواهيه {و} إن لم تفعلوا وعزة ربي وجلاله {لَتَعْلَمُنَّ} يا قومي ويا أيها الناس أجمع {نَبَأَهُ} الصادق وخبره الحق اليقين {بَعْدَ حِينٍ} أي مطلق زمن معلوم عند اللّه لم يظهر لأحد، إلا أن الآية تفيد أن من بقي حيا علم ذلك إذا ظهر أمره وعلا، ومن يموت علمه بعد موته، والكل يعلمه يوم القيامة حقا، قال الحسن: عند الموت يأتيك الخبر اليقين.أخرج ابن عدي عن أبي برزة قال: قال صلّى اللّه عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأهل الجنة، قلنا بلى يا رسول اللّه، قال: هم الرحماء بينهم، قال ألا أنبئكم بأهل النار، قلنا بلى يا رسول اللّه قال: هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون».والمتكلف من ينازل من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم.وروى البخاري ومسلم عن مسروق قال دخلنا على ابن مسعود فقال: يا أيها الناس من علم شيئا فليقل ومن لم يعلم فليقل اللّه أعلم، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم اللّه أعلم، قال اللّه تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} الآية المارة، فعلى العاقل أن يتعظ بما تضمنه هذا الخبر الكريم.هذا، وأستغفر اللّه، واللّه أعلم ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه واتباعه ومن تبعهم بإحسان أجمعين إلى يوم الدين. اهـ.
|